سورة البقرة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{بسم الله الرحمن الرحيم} {الم}
الألفاظُ التي يعبّر بها عن حروف المعجمِ التي من جملتها المُقطّعاتُ المرقومةُ في فواتح السورِ الكريمة أسماءٌ لها، لاندراجها تحت حدِّ الاسم، ويشهدُ به ما يعتريها من التعريف والتنكيرِ والجمعِ والتصغيرِ وغير ذلك من خصائص الاسم، وقد نص على ذلك أساطينُ أئمة العربية، وما وقع في عبارات المتقدمين من التصريح بحَرْفيتها محمولٌ على المسامحة، وأما ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنةٌ والحسنةُ بعشر أمثالها، لا أقول ألمْ حرفٌ بل ألفٌ حرفٌ ولامٌ حرفٌ وميمٌ حرف» وفي رواية الترمذي والدارمي: «لا أقول ألم حرفٌ وذلك الكتابُ حرف ولكنِ الألفُ حرفٌ واللامُ حرفٌ والميمُ حرفٌ والذالُ حرفٌ والكافُ حرفٌ» فلا تعلّقَ له بما نحن فيه قطعاً، فإن إطلاقَ الحرف على ما يقابل الاسمَ والفعلَ عرفٌ جديدٌ اخترعه أئمةُ الصناعة. وإنما الحرفُ عند الأوائل ما يتركب منه الكلمُ من الحروف المبسوطة، وربما يطلق على الكلمة أيضاً تجوزاً، وأريد به في الحديث الشريف دفعُ توهمِ التجوُّز، وزيادةُ تعيينِ إرادةِ المعنى الحقيقي ليتبين بذلك أن الحسنةَ الموعودةَ ليست بعدد الكلماتِ القرآنية، بل بعدد حروفها المكتوبةِ في المصاحف، كما يلوِّح به ذكرُ كتابِ الله دون كلامِ الله أو القرآن، وليس هذا من تسمية الشيء باسم مدلولهِ في شيء كما قيل، كيف لا والمحكومُ عليه بالحرفية واستتباعِ الحسنةِ إنما هي المسمّياتُ البسيطةُ الواقعةُ في كتاب الله عز وعلا، سواءٌ عُبّر عنها بأسمائها أو بأنفسها كما في قولك السينُ مهملة والشينُ مثلثة وغير ذلك مما لا يصدُق المحمولُ إلا على ذات الموضوع لا أسماؤها المؤلفة كما إذا قلنا الألف مؤلف من ثلاثة أحرف، فكما أن الحسنات في قراءة قوله تعالى: {ذلك الكتاب} بمقابلة حروفهِ البسيطة، وموافقةٌ لعددها كذلك في قراءة قوله تعالى: {الم} بمقابلة حروفهِ الثلاثة المكتوبة وموافقةٌ لعددها، لا بمقابلة أسمائِها الملفوظة والألفاتِ الموافقةِ في العدد، إذِ الحكمُ بأن كلاً منها حرفٌ واحد مستلزمٌ للحكم بأنه مستتبعٌ لحسنةٍ واحدة، فالعبرةُ في ذلك بالمعبَّر عنه دون المعبَّر به، ولعل السرَّ فيه أن استتباعَ الحسنةِ منوطٌ بإفادة المعنى المرادِ بالكلمات القرآنية. فكما أن سائرَ الكلماتِ الشريفة لا تفيد معانيَها إلا بتلفظ حروفِها بأنفسها، كذلك الفواتحُ المكتوبةُ لا تفيد المعانيَ المقصودةَ بها إلا بالتعبير عنها بأسمائها، فجُعل ذلك تلفظاً بالمسمَّيات كالقسمِ الأول من غير فرقٍ بينهما.
ألا ترى إلى ما في الروايةِ الأخيرةِ من قوله عليه السلام: «والذالُ حرفٌ والكاف حرف»
كيف عبّر عن طَرَفي {ذلك} باسميهما، مع كونهما ملفوظين بأنفسهما، ولقد روعيَتْ في هذه التسميةِ نُكتةٌ رائعة حيث جُعِلَ كلُ مسمىً لكونه من قبيل الألفاظ صَدْراً لاسمه، ليكون هو المفهومَ منه إثرَ ذي أثير، خلا أن الألفَ حيث تعذّر الابتداءُ بها استُعيرت مكانها الهمزة، وهي مُعرَبة إذ لا مناسبةَ بينها وبين مبنيِّ الأصل، لكنها ما لم تلِها العواملُ ساكنةُ الأعجاز على الوقف كأسماء الأعدادِ وغيرِها، حين خلت عن العوامل، ولذلك قيل: صادْ، وقافْ، مجموعاً فيهما بين الساكنين، ولم تعامَلْ معاملةَ أين وكيف وهؤلاءِ، وإن وَلِيَها عاملٌ مسها الإعرابُ، وقصرُ ما آخِرُه ألفٌ عند التهجي لابتغاء الخِفةِ لا لأن وِزانَه وزانُ *لا* تقصَرُ تارةً فتكونُ حرفاً وتمُدّ أخرى فتكون اسماً لها كما في قولِ حسانَ رضي الله عنه:
ما قال لا قطُّ إلا في تشهُّده *** لولا التشهُّدُ لم تُسْمَعْ له لاءُ
هذا وقد تكلموا في شأن هذه الفواتح الكريمةِ وما أريد بها فقيل: إنها من العلوم المستورةِ، والأسرارِ المحجوبة، رُوي عن الصّدّيق أنه قال: في كل كتاب سرٌّ، وسرُّ القرآن أوائلُ السور، وعن عليّ رضي الله عنه: إن لكل كتابٍ صفوةً وصفوةُ هذا الكتابِ حروفُ التهجّي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: عجِزتِ العلماءُ عن إدراكها، وسُئل الشعبي عنها فقال: سرُّ الله عز وجل فلا تطلُبوه، وقيل: إنها من أسماء الله تعالى، وقيل: كلُّ حرفٍ منها إشارة إلى اسمٍ من أسماء الله تعالى، أو صفةٍ من صفاته تعالى. وقيل: إنها صفاتُ الأفعال، الألفُ آلاؤُه، واللام لُطفه، والميمُ مجدُه ومُلكُه، قاله محمدُ بنُ كعبٍ القُرَظي. وقيل: إنها من قبيل الحساب، وقيل: الألفُ من الله، واللامُ من جبريلَ، والميمُ من محمد، أي الله أنزل الكتابَ بواسطة جبريلَ على محمدٍ عليهما الصلاة والسلام. وقيل: هي أقسام من الله تعالى بهذه الحروف المعجمة، لشرفها من حيث إنها أصولُ اللغاتِ ومبادىءُ كتبِه المنزلة، ومباني أسمائِه الكريمة، وقيل: إشارةٌ إلى انتهاء كلامٍ وابتداءِ كلامٍ آخرَ، وقيل، وقيل.
ولكن الذي عليه التعويلُ: إما كونُها أسماءً للسور المصدرة بها، وعليه إجماعُ الأكثر، وإليه ذهب الخليلُ وسيبويه، قالوا سمِّيت بها إيذاناً بأنها كلماتٌ عربيةٌ معروفةُ التركيب من مسميات هذه الألفاظ، فيكون فيه إيماءٌ إلى الإعجاز والتحدّي على سبيل الإيقاظِ، فلولا أنه وحيٌ من الله عز وجل لما عجِزوا عن معارضته، ويقرُب منه ما قاله الكلبيُّ والسّدي وقَتادة من أنها أسماءٌ للقرآن، والتسمية بثلاثة أسماءٍ فصاعداً إنما تُستنكر في لغة العرب إذا رُكِّبَتْ وجُعلت إسماً واحداً، كما في حَضْرَموت، فأما إذا كانت منثورة فلا استنكار فيها، والمسمى هو المجموعةُ لا الفاتحة فقط، حتى يلزمَ اتحادُ الاسمِ والمسمى، غايةُ الأمر دخولُ الاسم في المسمى، ولا محذورَ فيه، كما لا محذورَ في عكسه حسبما تحققْتَه آنفاً، وإنما كُتبت في المصاحف صورُ المسميات دون صور الأسماءِ لأنه أدلَّ على كيفية التلفّظ بها، وهي إمَّا أن يكون على نهْج التهجّي دون التركيب ولأن فيه سلامةً من التطويل لا سيما في الفواتحِ الخُماسية، على أن خطَّ المُصحف مما لا يناقَشُ فيه بمخالفة القياسِ، وإما كونها مسرودةً على نمط التعديد، وإليه جنَح أهلُ التحقيق.
قالوا إنما وردت هكذا ليكون إيقاظاً لمن تُحِدِّيَ بالقرآن، وتنبيهاً لهم على أنه منتظمٌ من عين ما ينظِمون منه كلامَهم، فلولا أنه خارجٌ عن طوْق البشر، نازلٌ من عند خلاّق القُوى والقَدَر، لما تضاءلت قوتُهم، ولا تساقطت قدرتُهم، وهم فرسانُ حَلْبةِ الحِوار، وأُمراءُ الكلام في نادي الفخار، دون الإتيانِ بما يُدانيه، فضلاً عن المعارَضة بما يُساويه، مع تظاهرهم في المضادّة والمضارّة، وتهالُكِهم على المعَازة والمعارّة.
أو ليكونَ مطلَعُ ما يُتلى عليهم مستقلاً بضربٍ من الغرابة، أُنموذجاً لما في الباقي من فنون الإعجاز، فإن النطقَ بأنفُس الحروفِ في تضاعيف الكلام، وإن كان على طرَف التمام، يتناولُه الخواصُّ والعوامُّ، من الأعراب والأعجام، لكن التلفظَ بأسمائها إنما يتأتَّى ممن درَس وخطَّ، وأما ممن لم يحُمْ حولَ ذلك قطّ، فأعزُّ من بَيْض الأَنُوق، وأبعدُ من مَناط العَيُّوق، لا سيما إذا كان على نمط عجيب، وأسلوبٍ غريب، مُنْبىءٍ عن سرَ سِرِّيَ، مبنيَ على نهجٍ عبقري، بحيث يَحارُ في فهمه أربابُ العقول، ويعجِزُ عن إدراكه ألبابُ الفحول.
كيف لا وقد وردت تلك الفواتحُ في تسعٍ وعشرين سورةً على عدد حروف المُعجم، مشتملةً على نصفها تقريباً، بحيث ينطوي على أنصاف أصنافِها تحقيقاً أو تقريباً، كما يتّضحُ عند الفحص والتنقير، حسبما فصّله بعضُ أفاضِلِ أئمةِ التفسير.
فسبحان من دقّتْ حكمتُه من أن تطالعَها الأنظارُ، وجلّت قُدرتُه عن أن تنالَها أيدي الأفكار، وإيرادُ بعضِها فرادى وبعضِها ثنائيةً إلى الخماسية جرَى على عادة الافتنان، مع مراعاة أبنيةِ الكَلِم وتفريقِها على السور، دون إيرادِ كلِّها مرةً لذلك ولِما في التكرير والإعادة من زيادة إفادةٍ، وتخصيصُ كلَ منها بسُورتها مما لا سبيلَ إلى المطالبة بوجهه، وعدُّ بعضِها آيةً دون بعضٍ مبنيٌّ على التوقيف البحت.
أما {الم} فآيةٌ حيثما وقعت، وقيل في آل عمرانَ ليست بآية، و{المص} آية، و{المر} لم تُعدَّ آية، و{الر} ليست بآية في شيءٍ من سورها الخمس، و{طسم} آية في سورتيها، و{طاه} و{ياس} آيتان، و{طس} ليست بآية، و{حم} آيةٌ في سُوَرِها كلِّها، و{كهيعص} آية، و{حم عسق} آيتان، و{ص} و{ق} و{ن} لم تُعَدَّ واحدةٌ منها آية. هذا على رأي الكوفيين.
وقد قيل: إن جميعَ الفواتحِ آياتٌ عندهم في السور كلِّها بلا فرقٍ بينها، وأما مَنْ عداهم فلم يعُدّوا شيئاً منها آية، ثم إنها على تقدير كونها مسرودةً على نَمطِ التعديدِ لا تُشَمُّ رائحةَ الإعراب، ويوقفُ عليها وقفَ التمام، وعلى تقدير كونِها أسماءً للسور أو للقرآنِ كان لها حظٌّ منه، إما الرفعُ على الابتداء أو على الخبرية، وإما النصبُ بفعل مُضمَرٍ، كاذكُرْ، أو بتقدير فعلِ القَسَم على طريقة: الله لأفعلن، وإما الجرُ بتقدير حرفِه حسبما يقتضيه المقام، ويستدعيه النظام، ولا وقف فيما عدا الرفعَ على الخبرية، والتلفظُ بالكل على وجه الحكاية ساكنةَ الأعجاز، إلا أن ما كانت منها مفردةً مثل: {ص} و{ق} و{ن} يتأتى فيها الإعرابُ اللفظيُ أيضاً، وقد قُرئت بالنصب على إضمار فعلِ، أي اذكُرْ أو اقرأْ صادَ وقافَ ونونَ، وإنما لم تنوَّنْ لامتناع الصرف، وكذا ما كانت منها موازنةً لمفردٍ نحوِ {حم} و{ياس} و{طس} الموازنةَ لقابيلَ وهابيلَ، حيث أجاز سيبويهِ فيها مثلَ ذلك قال في باب أسماء السور من كتابه: وقد قرأ بعضُهم ياسينَ والقرآنِ، وقافَ والقرآنِ، فكأنه جعله اسماً أعجمياً، ثم قال اذكُرْ ياسينَ، انتهى.
وحكى السيرافيُّ أيضاً عن بعضهم قراءةَ {ياسينَ} ويجوز أن يكون ذلك في الكل تحريكاً لالتقاء الساكنين، ولا مَساغَ للنصب بإضمار فعلِ القسم لأن ما بعدها من القرآن والقلمِ محلوفٌ بهما، وقد استكرهوا الجمعَ بين قَسَمين على مُقسَمٍ عليه واحدٍ قبل انقضاءِ الأول، وهو السرُّ في جعل ما عدا الواوِ الأولى في قوله تعالى: {واليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى} عاطفةً، ولا مجال للعطف هاهنا للمخالفة بين الأولِ والثاني في الإعراب، نعم يجوز ذلك بجعل الأولِ مجروراً بإضمارِ الباءِ القسَمية، مفتوحاً لكونه غيرَ منصرِف، وقرئ {ص} و{ق} بالكسر على التحريك لالتقاءِ الساكنين، ويجوز في (طاسين ميم) أن تفتح نونُها، وتُجعلَ من قبيل (داراً بجَرَد) ذكره سيبويه في كتابه. وأما ما عدا ذلك من الفواتح فليس فيها إلا الحكايةُ. وسيجيء تفاصيلُ سائر أحكامِ كلَ منها مشروحةً في مواقعها بإذن الله عزَّ سلطانُه. أما هذه الفاتحةُ الشريفةُ فإن جُعلت اسماً للسورة أو للقرآنِ فمحلُها الرفع، إما على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، والتقديرُ هذا {الم} أي مسمًّى به، وإنما صحت الإشارةُ إلى القرآن بعضاً أو كلاً مع عدم سبْق ذكرِه لأنه باعتبار كونِه بصدد الذكرِ صار في حكم الحاضِرِ المشاهَد، كما يقال هذا ما اشترى فلان.
وإما على أنه مبتدأ، أي المسمَّى به والأولُ هو الأظهر، لأن ما يُجعلُ عنوانَ الموضوع حقُه أن يكون قبل ذلك معلومَ الانتساب إليه عند المخاطَب، وإذ لا عِلْمَ بالتسمية قبلُ فحقُها الإخبارُ بها، وادعاءُ شهرتها يأباه الترددُ في أن المسمَّى هي السورةُ أو كلُّ القرآن.


{ذلك} ذا اسمُ إشارة واللاَّمُ كنايةٌ عما جيء به للدلالة على بُعد المشارُ إليه، والكافُ للخطاب، والمشارُ إليه هو المسمَّى، فإنه منزَّلٌ منزلةَ المشاهَدِ بالحسِّ البَصَري، وما فيه من معنى البعدِ، مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه، للإيذان بعلو شأنه، وكونِه في الغاية القاصيةِ من الفضل والشرف، إثرَ تنويهِه بذكر اسمِه، وما قيل من أنه باعتبار التقصّي أو باعتبار الوصولِ من المرسِل إلى المرسَل إليه في حكم المتباعِد، وإن كان مصححاً لإيراده، لكنه بمعزل من ترجيحه على إيراد ما وُضع للإشارة إلى القريب، وتذكيرُه على تقدير كون المسمَّى هي السورة، لأن المشار إليه هو المسمَّى بالاسم المذكورِ من حيث هو مسمًّى به، لا من حيث هو مسمًّى بالسورة، ولئن ادُّعيَ اعتبارُ الحيثية الثانية في الأول بناءً على أن التسمية لتمييز السور بعضِها من بعض، فذلك لتذكير ما بعده، وهو على الوجه الأول مبتدأٌ على حِدَةٍ، وعلى الوجه الثاني مبتدأ ثانٍ.
وقوله عز وعلا: {الكتاب} إما خبرٌ له، أو صفةٌ، أما إذا كان خبراً له فالجملةُ على الوجه الأولِ مستأنفةٌ مؤكِّدةٌ لما أفادته الجملةُ الأولى من نباهة شأن المسمَّى، لا محلَّ لها من الإعراب، وعلى الوجه الثاني في محل الرفع على أنها خبرٌ للمبتدأ الأول، واسمُ الإشارة مغنٍ عن الضمير الرابط، والكتابُ إما مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ مبالغةً كالخَلْق والتصوير للمخلوق والمصوَّر، وإما فعلٌ بني للمفعول كاللِّباس، من الكتاب الذي هو ضمُّ الحروف بعضِها إلى بعض، وأصله الجمعُ والضمُ في الأمور البادية للحسِّ البصَري، ومنه الكتيبةُ للعسكر، كما أن أصل القراءة الجمعُ والضمُ في الأشياء الخافية عليه، وإطلاقُ الكتاب على المنظوم عبارةً لِما أن مآله الكتابة، والمرادُ به على تقدير كونِ المسمَّى هي السورة جميع القرآن الكريم وإن لم يتم نزولُه عند نزول السورة، إما باعتبار تحققِه في علم الله عز وجل، أو باعتبار ثبوتِه في اللوح، أو باعتبار نزولِه جملةً إلى السماء الدنيا، حسبما ذُكر في فاتحة الكتاب، واللام للعهد والمعنى أن هذه السورة هو الكتاب أي العمدةُ القصوى منه كأنه في إحراز الفضل كلُّ الكتاب المعهودِ، الغنيُّ عن الوصف بالكمال لاشتهاره به فيما بين الكتب على طريقة قوله صلى الله عليه وسلم: «الحجُّ عَرَفة» وعلى تقدير كون المسمَّى كلَّ القرآن، فالمرادُ بالكتاب الجنسُ، واللامُ للحقيقة، والمعنى أن ذلك هو الكتابُ الكاملُ الحقيقُ بأن يُخصَّ به اسمُ الكتاب، لتفوقه على بقية الأفرادِ في حيازة كمالاتِ الجنس، كأن ما عداه من الكُتُب السماوية خارجٌ منه بالنسبة إليه كما يقال هو الرجل، أي الكاملُ في الرجولية الجامعُ لما يكون في الرجال من مراضي الخِصال، وعليه قولُ من قال:
هم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ ***
فالمدحُ كما ترى من جهة حصر كمالِ الجنس في فرد من أفراده، وفي الصورة الأولى من جهة حصرِ كمالِ الكلِّ في الجزء، ولا مساغَ هناك لحمل الكتاب على الجنس، لما أن فردَه المعهود هو مجموعُ القرآن المقابلُ لسائر أفرادِه من الكتب السماوية، لا بعضُه الذي يُطلق عليه اسمُ الكتاب باعتبار كونِه جزءاً لهذا الفرد، لا باعتبار كونِه جزئياً للجنس على حِياله، ولأن حصرَ الكمالِ في السورة مُشعرٌ بنقصان سائرِ السور، وإن لم يكن الحصرُ بالنسبة إليها لتحقق المغايَرَة بينهما، هذا على تقدير كونِ الكتاب خبراً لذلك، وأما إذا كان صفةً له فذلك الكتابُ على تقدير كون {الم} خبرَ مبتدإٍ محذوفٍ، إما خبرٌ ثانٍ أو بدلٌ من الخبر الأول، أو مبتدأٌ مستقلٌ خبرُه ما بعده، وعلى تقدير كونِه مبتدأً إما خبرٌ له، أو مبتدأٌ ثانٍ خبرُه ما بعده، والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأول، والمشارُ إليه على كلا التقديرين هو المسمَّى، سواءٌ كان هي السورةَ أو القرآن، ومعنى البعد ما ذُكر من الإشعارِ بعلوِّ شأنِه، والمعنى ذلك الكتاب العجيبُ الشأنِ، البالغُ أقصى مراتبِ الكمال.
وقيل المشارُ إليه هو الكتابُ الموعودُ، فمعنى البعدِ حينئذٍ ظاهرٌ، خلا أنه إنْ كان المسمَّى هي السورةَ ينبغي أن يُرادَ بالوعد ما في قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} كما قيل، وإن كان هو القرآنَ فهو ما في التوراة والإنجيل، هذا على تقدير كون {الم} اسماً للسورة أو القرآن، وأما على تقدير كونِها مسرودةً على نمَط التعديد فذلك مبتدأ، والكتابُ إما خبرُه أو صفتُه، والخبرُ ما بعده على نحو ما سلف، أو يُقدَّر مبتدأٌ، أي المؤلَّفُ من هذه الحروف ذلك الكتابُ، وقرئ {الم تنزيلُ الكتاب}.
وقوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} إما في محل الرفعِ على أنه خبرٌ {لذلك الكتابُ} على الصور الثلاثِ المذكورة، أو على أنه خبرٌ ثانٍ لألف لام ميم أو {لذلك} على تقدير كونِ الكتابِ خبرَه، أو للمبتدأ المقدرِ آخِراً على رأي من يجوِّز كونَ الخبرِ الثاني جملةً، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى} وإما في محل النصب على الحالية من {ذلك}، أو من {الكتاب}، والعامل معنى الإشارة، وإما جملةٌ مستأنَفة لا محل لها من الإعراب مؤكِّدة لما قبلها، وكلمةُ {لا} نافية للجنس مفيدةٌ للاستغراق، عاملةٌ عملَ إنَّ بحملها عليها، لكونها نقيضاً لها، ولازمةً للاسم لزومَها، واسمُها مبنيٌّ على الفتح لكونه مفرداً نكرةً لا مضافاً ولا شبيهاً به، وأما ما ذكره الزجاج من أنه معربٌ وإنما حُذف التنوينُ للتخفيف فمما لا تعويلَ عليه، وسببُ بنائه تضمُّنه لمعنى مِنْ الاستغراقية لأنه مركب معها تركيبَ خمسةَ عشرَ كما توهم، وخبرُها محذوف، أي لا ريب موجودٌ أو نحوُه، كما في قوله تعالى: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} والظرفُ صفةٌ لاسمها، ومعناه نفيُ الكونِ المطلق وسلبُه عن الريب المفروضِ في الكتاب، أو الخبرُ هو الظرف، ومعناه سلبُ الكونِ فيه عن الريب المطلق وقد جُعل الخبرُ المحذوفُ ظرفاً، وجعل المذكور خبراً لما بعده.
وقرئ {لا ريبٌ فيه} على أن لا بمعنى ليس، والفرق بينه وبين الأول أن ذلك موجبٌ للاستغراق، وهذا مجوِّزٌ له، والريب في الأصل مصدرُ رابني إذا حصل فيك الرِّيبة، وحقيقتُها قلقُ النفس واضطرابُها، ثم استعمل في معنى الشك مطلقاً، أو معَ تُهمة، لأنه يُقلق النفسَ ويزيل الطُمَأْنينة، وفي الحديث: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُك» ومعنى نفيه عن الكتاب أنه في علو الشأن وسطوعِ البرهانِ بحيث ليس فيه مظنةُ أن يُرتاب في حقّيته، وكونِه وحياً منزلاً من عند الله تعالى، لا أنه لا يرتاب فيه أحد أصلاً، ألا ترى كيف جُوِّز ذلك في قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا} الخ. فإنه في قوةِ أن يقال: وإن كان لكم ريبٌ فيما نزلنا، أو إنِ ارتبتم فيما نزلنا، إلخ إلا أنه خُولِفَ في الأسلوب حيث فُرض كونُهم في الريب لا كونُ الريبِ فيه لزيادة تنزيهِ ساحة التنزيل عنه، مع نوع إشعارٍ بأن ذلك من جهتهم، لا من جهته العالية، ولم يُقصَدْ هاهنا ذلك الإشعارُ، كما لم يقصَدِ الإشعارُ بثبوت الريبِ في سائر الكتب، ليقتضِيَ المقامُ تقديمَ الظرف، كما في قوله تعالى: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} {هُدًى} مصدرٌ من هداه، كالسُّرى والبُكا، وهو الدَّلالةُ بلطفٍ على ما يوصِل إلى البُغية، أي ما مِنْ شأنه ذلك، وقيل: هي الدلالة الموصلةُ إليها، بدليل وقوعِ الضلالة في مقابلته، في قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} وقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ} ولا شك في أن عدم الوصولِ معتبرٌ في مفهوم الضلال، فيعتبر الوصولُ في مفهوم مقابلهِ، ومن ضرورة اعتبارِه فيه اعتبارُه في مفهوم الهدى المتعدّي، إذ لا فرق بينهما إلا من حيث التأثيرُ والتأثّر، ومحصّلهُ أن الهدى المتعدّي هو التوجيهُ الموصِل، لأن اللازم هو التوجُّه الموصِلُ، بدليل أن مقابِلَه الذي هو الضلال توجهٌ غيرُ موصل قطعاً، وهذا كما ترى مبنيٌّ على أمرين: اعتبارِ الوصولِ وجوباً في مفهوم اللازم، واعتبارِ وجودِ اللازم وجوباً في مفهوم المتعدّي، وكلا الأمرين بمعزل من الثبوت، أما الأول فلأن مدارَ التقابل بين الهدى والضلالِ ليس هو الوصولَ وعدمَه على الإطلاق، بل هما معتبَران في مفهوميهما على وجهٍ مخصوصٍ به، ليتحقق التقابلُ بينهما.
وتوضيحُه أن الهدى لا بد فيه من اعتبار توجّهٍ عن علم إلى ما مِنْ شأنه الإيصالُ إلى البُغية، كما أن الضلال لا بد فيه من اعتبار الجَوْرِ عن القَصْد إلى ما ليس من شأنه الإيصالُ قطعاً، وهذه المرتبةُ من الاعتبار مُسلّمةٌ بين الفريقين، ومُحقِّقةٌ للتقابل بينهما، وإنما النِّزاعُ في أن إمكان الوصولِ إلى البغية هل هو كافٍ في تحصيل مفهومِ الهدى، أو لا بد فيه من خروج الوصولِ من القوة إلى الفعل، كما أن عدم الوصولِ بالفعل معتبرٌ في مفهوم الضلال قطعاً؟
إذا تقرر هذا فنقول: إن أريد باعتبار الوصولِ بالفعل في مفهوم الهدى اعتبارُه مقارِناً له في الوجود زماناً حسَبَ اعتبارِ عدمِه في مفهوم مقابلِه فذلك بيِّنُ البُطلان، لأن الوصولَ غايةٌ للتوجّه المذكور، فينتهي به قطعاً، لاستحالة التوجُّهِ إلى تحصيل الحاصِل، وما يبقى بعد ذلك فهو إما توجّهٌ إلى الثبات عليه، وإما توجّهٌ إلى زيادته، ولأن التوجّهَ إلى المقصدِ تدريجيّ، والوصولَ إليه دفعيّ، فيستحيلُ اجتماعهما في الوجود ضرورة، وأما عدمُ الوصولِ فحيث كان أمراً مستمراً مثلَ ما يقتضيه من الضلال وجبَ مقارنتُه له في جميع أزمنةِ وجوده.
إذ لو فارقه في آنٍ من آنات تلك الأزمنةِ لقارنه في ذلك الآنِ مقابِلهُ الذي هو الوصول، فما فرضناه ضلالاً لا يكون ضلالاً، وإن أريد اعتبارُه من حيث إنه غايةٌ له واجبةُ الترتُّب عليه لزِم أن يكون التوجُّهُ المقارِنُ لغاية الجِدِّ في السلوك إلى ما من شأنه الوصولُ عند تخلُّفِه عنه لمانعٍ خارجي كاحترام المِنيَّةِ مثلاً من غير تقصيرٍ ولا جَوْر من قِبَل المتوجِّه، ولا خللٍ من جهة المسلكِ ضلالاً، إذ لا واسطةَ بينهما، مع أنه لا جَوْر فيه عن القصد أصلاً، فبطَلَ اعتبارُ وجوبِ الوصولِ في مفهومِ اللازم قطعاً، وتبين منه عدمُ اعتبارِه في مفهوم المتعديّ حتماً، وأما اعتبارُ وجودِ اللازم فيه وجوباً وهو الأمرُ الثاني، فبيانُه مبنيٌّ على تمهيد أصل، وهو أن فعلَ الفاعل حقيقةً هو الذي يصدُر عنه ويتمُّ من قِبَله، لكن لمّا لم يكن له في تحقُّقه في نفسه بدٌّ من تعلّقه بمفعوله اعتُبر ذلك في مدلول اسمِه قطعاً، ثم لما كان له باعتبار كيفيةِ صدورِه عن فاعله، وكيفيةِ تعلّقِه بمفعوله، وغيرِ ذلك آثارٌ شتّى مترتبةٌ عليه متمايزةٌ في أنفسها، مستقلةٌ بأحكامٍ مقتضيةٍ لإفرادها بأسماءٍ خاصة، وعُرض له بالقياس إلى كل أثرٍ من تلك الآثارِ إضافةٌ خاصة ممتازة عما عداها من الإضافات العارضة له بالقياس إلى سائرها، وكانت الآثارُ تابعةً له في التحقّق غيرَ منفكّةٍ عنه أصلاً إذ لا مؤثِّرَ لها سوى فاعلِه عُدَّت من متمماته، واعتُبرت الإضافةُ العارضةُ له بحسَبها داخلةً في مدلوله، كالاعتماد المتعلِّق بالجسم مثلاً، وُضع له باعتبار الإضافةِ العارضةِ له من انكسار ذلك الجسم الذي هو أثرٌ خاصٌّ لذلك الاعتماد اسمُ الكسر، وباعتبار الإضافةِ العارضةِ له من انقطاعه الذي هو أثرٌ آخَرُ له اسم القطع، إلى غير ذلك من الإضافات العارضةِ له بالقياس إلى آثاره اللازمةِ له، وهذا أمرٌ مطَّردٌ في آثاره الطبيعية.
وأما الآثارُ التي له مدخَلٌ في وجودها في الجملة من غير إيجابٍ لها تترتب عليه تارة وتفارقه أخرى، بحسب وجودِ أسبابِها الموجبةِ لها وعدمِها كالآثار الاختياريةِ الصادرةِ عن مؤثراتها بواسطة كونهِ داعياً إليها فحيث كانت تلك الآثارُ مستقلةً في أنفسها مستندةً إلى مؤثراتها غيرَ لازمةٍ له لزومَ الآثارِ الطبيعيةِ التابعةِ له لم تعُدْ من متمماته، ولم تُعتبر الإضافةُ العارضةُ له بحسبها داخلةً في مدلوله كالإضافة العارضةِ للأمر بحسَبِ امتثالِ المأمور، والإضافةِ العارضةِ للدعوة بحسب إجابةِ المدعوّ، فإن الامتثال والإجابة وإن عُدّا من آثار الأمرِ والدعوةِ باعتبار ترتّبهما عليهما غالباً، لكنهما حيث كانا فِعلين اختياريين للمأمور والمدعوِّ مستقِلَّيْن في أنفسهما غيرَ لازمين للأمر والدعوة، لم يُعَدا من متمماتهما، ولم تُعتبر الإضافةُ العارضةُ لهما بحسبهما داخلةً في مدلولِ اسمِ الأمرِ والدعوةِ، بل جُعلا عبارة عن نفس الطلب المتعلّقِ بالمأمورِ والمدعوّ، سواءٌ وجد الامتثالُ والإجابةُ أو لا.
إذا تمهّد هذا فنقول كما أن الامتثالَ والإجابةَ فعلان مستقلانِ في أنفسهما صادران عن المدعوِّ والمأمورِ باختيارهما غيرُ لازمين للأمر والدعوة لزومَ الآثارِ الطبيعية التابعة للأفعال الموجبة لها، وإن كانا مترتِّبين عليهما في الجملة، كذلك هُدى المَهْديّ أي توجُّهُه إلى ما ذكر من المسلك فعلٌ مستقلٌ له صادرٌ عنه باختياره، غيرُ لازم للهداية، أعني التوجيهَ إليه لزومَ ما ذُكر من الآثار الطبيعية، وإن كان مترتباً عليها في الجملة، فلما لم يُعَدّا من متممات الأمر والدعوة، ولم تعتبر الإضافةُ العارضةُ لهما بحسبهما داخلةً في مدلولهما عُلم أنه لم يُعدَّ الهدى اللازمُ من متممات الهداية، ولم تُعتبر الإضافةُ العارضة لها بحسبه داخلةً في مدلولها.
إن قيل: ليس الهُدى بالنسبة إلى الهداية كالامتثال والإجابة بالقياس إلى أصليهما، فإنَّ تعلقَ الأمر والدعوة بالمأمورِ والمدعوِّ لا يقتضي إلا اتصافهما بكونهما مأموراً ومدعواً، وليس من ضرورته اتصافُهما بالامتثال والإجابة، إذ لا تلازمَ بينهما وبين الأوّلَيْن أصلاً، بخلاف الهدى بالنسبة إلى الهداية، فإن تعلقها بالمهديِّ يقتضي اتصافه به، لأن تعلقَ الفعل المتعدِّي المبنيِّ للفاعل بمفعوله يدل على اتصافه بمصدره المأخوذِ من المبنيِّ للمفعول قطعاً، وهو مستلزِمٌ لاتصافه بمصدرِ الفعل اللازم، وهل الاعتبار هو وجودُ اللازم في مدلول المتعدي حتماً؟ قلنا كما أن تعلقَ الأمر والدعوةِ بالمأمور والمدعوِّ لا يستدعي إلا اتصافَهما بما ذكر من غير تعرّضٍ للامتثال والإجابة إيجاباً وسلباً، كذلك تعلقُ الهدايةِ التي هي عبارةٌ عن الدلالة المذكورة بالمهديّ لا يستدعي إلا اتصافَه بالمدلولية، التي هي عبارةٌ عن المصدر المأخوذ من المبنيّ للمفعول، من غير تعرض لقبول تلك الدلالة، كما هو معنى الهدى اللازم، ولا لعدم قبوله، بل الهدايةُ عينُ الدعوة إلى طريق الحق، والاهتداءُ عينُ الإجابة، فكيف يؤخذ في مدلولها؟ واستلزامُ الاتصافِ بمصدر الفعل المتعدي المبنيِّ للمفعول للاتصاف بمصدر الفعل اللازم مطلقاً إنما هو في الأفعال الطبيعية كالمكسورية والانكسار، والمقطوعية والانقطاع، وأما الأفعال الاختيارية فليست كذلك كما تحققته فيما سلف.
وإن قيل: التعلمُ من قبيل الأفعال الاختياريةِ مع أنه معتبرٌ في مدلول التعليم قطعاً، فليكن الهدى مع الهداية كذلك، قلنا: ليس ذلك لكونه فعلاً اختيارياً على الإطلاق، ولا لكون التعليم عبارةً عن تحصيل العلم للمتعلم كما قيل، فإن المعلم ليس بمستقل في ذلك، ففي إسناده إليه ضربُ تجوّز، بل لأن كلاًّ منهما مفتقر في تحققه وتحصُّله إلى الآخر، فإن التعليمَ عبارةٌ عن إلقاء المبادىءِ العلمية على المتعلم وسَوْقِها إلى ذهنه شيئاً فشيئاً على ترتيب يقتضيه الحال، بحيث لا يُساق إليه بعضٌ منها إلا بعد تلقِّيه لبعضٍ آخر، فكلٌّ منهما متمِّمٌ للآخَر معتبرٌ في مدلوله. وأما الهدى الذي هو عبارةٌ عن التوجُّه المذكور ففعلٌ اختياريٌّ يستقِلُّ به فاعلُه لا دخلَ للهداية فيه سوى كونِها داعيةً إلى إيجاده باختياره، فلم يكن من متمماتها ولا معتبراً في مدلولها.
إن قيل: التعليمُ نوعٌ من أنواع الهداية، والتعلمُ نوعٌ من أنواع الاهتداء فيكون اعتبارُه في مدلول التعليم اعتباراً للهدى في مدلول الهداية، قلنا إطلاقُ الهداية على التعليم إنما هو عند وضوحِ المسلك، واستبدادِ المتعلم بسلوكه من غير دخلٍ للتعليم فيه، سوى كونه داعياً إليه، وقد عرفت جليةَ الأمر على ذلك التقدير، إن قيل: أليس تخلّفُ الهدى عن الهداية كتخلف التعلم عن التعليم، فحيث لم يكن ذلك تعليماً في الحقيقة فلتكن الهداية أيضاً كذلك، وليُحمَلْ تسميةُ ما لا يستتبعُ الهدى بها على التجوز، قلنا: شتانَ بين التخلّفَيْن، فإن تخلف التعلم عن التعليم يكون لقصور فيه، كما أن تخلفَ الانكسار عن الضرب الضعيف لذلك.
وأما تخلفُ الهدى عن الهداية فليس لشائبةِ قصورٍ من جهتها، بل إنما هو لفقد سببه الموجبِ له من جهة المهديّ، بعد تكاملِ ما يتم من قبل الهادي.
وبهذا التحريرِ اتَّضحَ طريقُ الهداية، وتبين أنها عبارةٌ عن مطلق الدلالةِ على ما من شأنه الإيصالُ إلى البُغية بتعريف معالمهِ وتبيين مسالكِه، من غير أن يُشترط في مدلولها الوصولُ ولا القبول، وأن الدلالة المقارِنة لهما أو لأحدهما أو المفارِقة عنهما كلُّ ذلك مع قطع النظر عن قيد المقارنة وعدمها أفرادٌ حقيقية لها، وأن ما في قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} وقوله تعالى: {وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ} ونحوُ ذلك مما اعتُبر فيه الوصولُ من قبيل المجاز، وانكشف أن الدلالاتِ التكوينية المنصوبة في الأنفس والآفاق والبيانات التشريعية الواردة في الكتب السماوية على الإطلاق بالنسبة إلى كافة البرية برِّها وفاجرِها هداياتٌ حقيقيةٌ، فائضة من عند الله سبحانه، والحمدُ لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتديَ لولا أن هدانا الله.

معاني التقوى ومراتبها:
{لّلْمُتَّقِينَ} أي المتصفين بالتقوى حالاً أو مآلاً، وتخصيصُ الهدى بهم لما أنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بآثاره، وإن كان ذلك شاملاً لكل ناظر، من مؤمن وكافر، وبذلك الاعتبار قال الله: {هُدًى لّلنَّاسِ} والمتقي اسمُ فاعلٍ من باب الافتعال من الوقاية وهي فرْطُ الصيانة.
والتقوى في عُرف الشرع عبارةٌ عن كمال التوقي عما يضُره في الآخرة قال عليه السلام: «جُماعُ التقوى في قوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} الآية» وعن عمرَ بنِ عبد العزيز أنه تركُ ما حرم الله، وأداءُ ما فرضَ الله، وعن شَهْر بن حَوْشَب: المتقي من يترك ما لا بأسَ به حذراً من الوقوع فيما فيه بأسٌ، وعن أبي يزيد: أن التقوى هو التورعُ عن كل ما فيه شبهة، وعن محمد بن خفيف: أنها مجانبةُ كلِّ ما يبعدك عن الله تعالى، وعن سهل: المتقي من تبرأ عَنْ حَوله وقدرته. وقيل التقوى: ألاّ يراك الله حيث نهاك، ولا يفقِدَك حيث أمرك. وعن ميمونِ بنِ مهران: لا يكون الرجلُ تقياً حتى يكون أشدَّ محاسبةً لنفسه من الشريك الشحيحِ والسُلطانِ الجائر، وعن أبي تراب: بين يدي التقوى خمسُ عقباتٍ لا ينالها من لا يجاوِزُهن: إيثارُ الشدة على النعمة، وإيثارُ الضعفِ على القوة، وإيثارُ الذلِّ على العزة، وإيثارُ الجهد على الراحة، وإيثارُ الموتِ على الحياة، وعن بعض الحكماء أنه لا يبلغُ الرجل سَنامَ التقوى إلا أن يكون بحيث لو جُعل ما في قلبه في طبَقٍ فطِيفَ به في السوق لم يستحْيِ ممن ينظُر إليه. وقيل: التقوى أن تَزِين سِرَّك للحق، كما تَزينُ علانيتَك للخلق.

والتحقيق أن للتقوى ثلاثَ مراتبَ:
الأولى: التوقي عن العذاب المخلِّد بالتبرؤ عن الكفر، وعليه قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى}.
والثانية: التجنبُ عن كل ما يُؤثِم من فعل أو ترك، حتى الصغائر عند قوم، وهو المتعارَفُ بالتقوى في الشرع، وهو المعنيُّ بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ واتقوا}.
والثالثة: أن يتنزه عن كل ما يشغَلُ سرَّه عن الحق عز وجل، ويتبتّلَ إليه بكلّيته، وهي التقوى الحقيقيةُ المأمورُ بها في قوله تعالى: {مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} ولهذه المرتبة عَرْضٌ عريض يتفاوت فيه طبقاتُ أصحابها حسَب تفاوتِ درجاتِ استعداداتهم الفائضةِ عليهم بموجَب المشيئةِ الإلهية، المبنيّةِ على الحِكَم الأبية، أقصاها ما انتهى إليه هممُ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام، حيث جمعوا بذلك بين رياسَتي النبوةِ والولاية، وما عاقهم التعلقُ بعالم الأشباحِ عن العروجِ إلى معالم الأرواح، ولم تصُدَّهم الملابسةُ بمصالح الخلقِ عن الاستغراق في شؤون الحق، لكمال استعدادِ نفوسِهم الزكيةِ المؤيدةِ بالقوة القدسية، وهدايةُ الكتابِ المبين شاملةٌ لأرباب هذه المراتب أجمعين، فإن أريد بكونه هدىً للمتقين إرشادُه إياهم إلى تحصيل المرتبة الأولى ونيلِها، فالمرادُ بهم المشارفون للتقوى مجازاً، لاستحالة تحصيلِ الحاصل، وإيثارُه على العبارة المعرِبةِ عن ذلك للإيجاز، وتصديرِ السورة الكريمةِ بذكر أوليائه تعالى وتفخيمِ شأنهم.
وإن أريد به إرشادُه إلى تحصيل إحدى المرتبتين الأخيرتين، فإن عنى بالمتقين أصحابَ الطبقةِ الأولى تعيَّنت الحقيقة، وإن عنى بهم أصحاب إحدى الطبقتين الأخيرتين تعيَّن المجاز، لأن الوصولَ إليهما إنما يتحقق بهدايته المترقَّبة، وكذا الحال فيما بين المرتبةِ الثانية والثالثة، فإنه إن أريد بالهدى الإرشادُ إلى تحصيل المرتبةِ الثالثة، فإن عنى بالمتقين أصحابَ المرتبة الثانيةِ تعيَّنت الحقيقة، وإن عنى بهم أصحابَ المرتبةِ الثالثةِ تعيَّن المجاز، ولفظُ الهدايةِ حقيقةٌ في جميع الصور، وأما إن أريد بكونه هدىً لهم تثبيتُهم على ما هم عليه أو إرشادُهم إلى الزيادة فيه على أن يكون مفهومُها داخلاً في المعنى المستعمل فيه فهو مجازٌ لا محالة، ولفظُ المتقين حقيقةٌ على كل حال، واللامُ متعلقةٌ بهدىً أو بمحذوفٍ وقع صفةً له، أو حالاً منه، ومحلُ {هدى} الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي هو هدى، أو خبرٌ مع لا ريب فيه لذلك الكتاب، أو مبتدأٌ خبرُه الظرفُ المقدم، كما أشير إليه، أو النصبُ على الحالية من {ذلك} أو من {الكتاب}، والعامل معنى الإشارة، أو من الضمير في {فيه}، والعاملُ ما في الجار والمجرور من معنى الفعل المنفي، كأنه قيل: لم يحصُلْ فيه الريبُ حال كونه هادياً، على أنه قيدٌ للنفي لا للمنفيّ، وحاصلُه انتفاءُ الريبِ فيه حال كونه هادياً، وتنكيرُه للتفخيم، وحملُه على الكتاب إما للمبالغة، كأنه نفسُ الهدى، أو لجعل المصدر بمعنى الفاعل.
هذا والذي يستدعيه جزالةُ التنزيلِ في شأن ترتيب هذه الجُمل أن تكون متناسقةً تقرِّرُ اللاحقةُ منها السابقة، ولذلك لم يتخلل بينها عاطف، ف {الم} جملةٌ برأسها على أنها خبرٌ لمبتدأ مضمر، أو طائفةٌ من حروف المُعجم مستقلةٌ بنفسها دالةٌ على أن المتحدَّى به هو المؤلَّفُ من جنس ما يؤلِّفون منه كلامَهم، و{ذلك الكتابُ} جملةٌ ثانيةٌ مقرِّرةٌ لجهة التحدي، لما دلت عليه من كونه منعوتاً بالكمال الفائق، ثم سجل على غاية فضلِه بنفي الريبِ فيه، إذ لا فضلَ أعلى مما للحق واليقين، و{هدى للمتقين} مع ما يقدَّر له من المبتدأ جملةٌ مؤكدةٌ لكونه حقاً لا يحوم حوله شائبةُ شكٍ ما، ودالةٌ على تكميله بعد كمالِه، أو يستتبعُ السابقة منها اللاحقةُ استتباعَ الدليل للمدلول، فإنه لما نبَّه أولاً على إعجاز المتحدَّى به من حيث إنه من جنس كلامِهم، وقد عجَزوا عن معارضته بالمرة، ظهر أنه الكتابُ البالغُ أقصى مراتبِ الكمال، وذلك مستلزمٌ لكونه في غاية النزاهة عن مظنّة الريب، إذ لا أنقصَ مما يعتريه الشك، وما كان كذلك كان لا محالة هدىً للمتقين، وفي كلَ منها من النُكت الرائقةِ والمزايا الفائقةِ ما لا يخفى جلالةُ شأنه حسبما تحققته.


{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغيب} إما موصولٌ بالمتقين، ومحلُّه الجرُّ على أنه صفةٌ مقيِّدةٌ له إن فُسّر التقوى بترك المعاصي فقط، مترتبةٌ عليه ترتّبَ التحلية على التَّخْلية، وموضِّحةٌ إن فُسِّر بما هو المتعارَفُ شرعاً والمتبادَرُ عُرفاً، من فعل الطاعات وتركِ السيئات معاً، لأنها حينئذٍ تكون تفصيلاً لما انطوى عليه اسمُ الموصوف إجمالاً، وذلك لأنها مشتملة على ما هو عمادُ الأعمال وأساسُ الحسنات، من الإيمان والصلاة والصدقة، فإنها أمهاتُ الأعمال النفسانية والعباداتِ البدنية والمالية المستتبِعة لسائر القُرَب الداعيةِ إلى التجنب عن المعاصي غالباً، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشاء والمنكر} وقوله عليه السلام: «الصلاةُ عمادُ الدين، والزكاةُ قنطرةُ الإسلام» أو مادحةً للموصوفين بالتقوى المفسَّرِ بما مر من فعل الطاعات وتركِ السيئات.
وتخصيصُ ما ذكر من الخِصال الثلاثِ بالذكر لإظهار شرفِها وإنافتها على سائر ما انطوى تحت اسمِ التقوى من الحسنات، أو النصبُ على المدح بتقدير أعني أو الرفعُ عليه بتقدير *هم*، وإما مفصولٌ عنه مرفوعٌ بالابتداء خبرُه الجملةُ المصدّرةُ باسم الإشارة كما سيأتي بيانُه، فالوقفُ على {المتقين} حينئذ وقفٌ تام، لأنه وقف على مستقلٍ، ما بعده أيضاً مستقل، وأما على الوجه الأول فحسنٌ لاستقلال الموقوف عليه، غيرُ تامَ لتعلق ما بعده به وتبعيّته له، أما على تقدير الجر على الوصفية فظاهر، وأما على تقدير النصبِ أو الرفع على المدح فلما تقرَّر من أن المنصوبَ والمرفوعَ مدحاً وإن خرجا عن التبعية لما قبلهما صورةً حيث لم يتبعاه في الإعراب، وبذلك سُمّيا قطعاً لكنهما تابعان له حقيقة، ألا ترى كيف التزموا حذفَ الفعل والمبتدأ في النصب والرفع رَومْاً لتصوير كلَ منهما بصورة متعلِّقٍ من متعلقات ما قبله وتنبيهاً على شدة الاتصال بينهما، قال أبو علي: إذا ذُكرت صفاتٌ للمدح وخولف في بعضها الإعرابُ فقد خولف للافتنان، أي للتفنن الموجب لإيقاظ السامع وتحريكه إلى الجِدّ في الإصغاء، فإن تغيير الكلامِ المَسوقِ لمعنىً من المعاني وصَرْفَه عن سَننه المسلوكِ يُنبىء عن اهتمام جديد بشأنه من المتكلم، ويستجلب مزيدَ رغبةٍ فيه من المخاطب.
إن قيل: لا ريب في أن حال الموصول عند كونه خبراً لمبتدأ محذوف كحاله عند كونه مبتدأ خبرُه {أولئك على هدى} في أنه ينسبك به جملةً اسميةً مفيدة، لاتصاف المتقين بالصفات الفاضلة، ضرورةَ أن كلاًّ من الضمير المحذوف والموصولِ عبارةٌ عن المتقين. وأن كلاًّ من اتصافهم بالإيمان وفروعِه، وإحرازهم للهدى والفلاحِ من النعوت الجليلة، فما السرُّ في أنه جُعل ذلك في الصورة الأولى من توابع المتقين، وعُدَّ الوقفُ غيرَ تام، وفي الثانية مقتطعاً عنه، وعُدَّ الوقفُ تامًّا؟ قلنا: السرُّ في ذلك أن المبتدأ في الصورتين وإن كان عبارة عن المتقين، لكن الخبرَ في الأولى لما كان تفصيلاً لما تضمنه المبتدأ إجمالاً حسبما تحققته معلومُ الثبوت له بلا اشتباه، غيرُ مفيد للسامع سوى فائدةِ التفصيلِ والتوضيح، نُظم ذلك في سلك الصفاتِ مراعاةً لجانب المعنى، وإن سمي قطعاً مراعاة لجانب اللفظ، كيف لا وقد اشتهر في الفن أن الخبر إذا كان معلومَ الانتساب إلى المُخبَر عنه فحقُّه أن يكون وصفاً له، كما أن الوصف إذا لم يكن معلومَ الانتساب إلى الموصوف حقُّه أن يكون خبراً له، حتى قالوا: إن الصفاتِ قبل العلم بها أخبارٌ، والأخبارُ بعد العلم بها صفات.
وأما الخبرُ في الثانية فحيث لم يكن كذلك بل كان مشتملاً على ما لا ينبىء عنه المبتدأ من المعاني اللائقة كما ستحيط به خبراً مفيداً للمخاطب فوائدَ رائقة، جُعل ذلك مقتطعاً عما قبله محافظةً على الصورة والمعنى جميعاً.
والإيمانُ إفعالٌ من الأمن المتعدّي إلى واحد، يقال آمنتُه، وبالنقل تعدى إلى اثنين، يقال آمنَنيه غيري، ثم استُعمل في التصديق، لأن المصَدِّقَ يؤمِنُ المُصَدَّق، أي يجعله أميناً من التكذيب والمخالفة، واستعماله بالباء لتضمينه معنى الاعتراف، وقد يطلق على الوثوق، فإن الواثقَ يصير ذا أمنٍ وطُمأنينة، ومنه ما حُكي عن العرب ما آمِنْتُ أن أجد صحابة، أي ما صِرْتُ ذا أمنٍ وسكون، وكلا الوجهين حسنٌ هنا وهو في الشرع لا يتحقق بدون التصديق بما عُلم، ضرورةَ أنه من دين نبينا عليه الصلاة والسلام، كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء ونظائرها، وهل هو كافٍ في ذلك أو لا بد من انضمام الإقرار إليه للتمكن منه؟.
والأول رأيُ الشيخ الأشعري ومن شايعه، فإن الإقرارَ عنده منشأٌ لإجراء الأحكام، والثاني مذهبُ أبي حنيفة ومن تابعه وهو الحق، فإنه جعلهما جزأين له، خلا أن الإقرارَ ركنٌ محتمِلٌ للسقوط بعذر، كما عند الإكراه، وهو مجموعُ ثلاثةِ أمور: اعتقادُ الحق، والإقرارُ به، والعملُ بموجبه عند جمهورِ المحدثين والمعتزلة والخوارج، فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق، ومن أخل بالإقرارِ فهو كافر، ومن أخل بالعمل فهو فاسق اتفاقاً وكافرٌ عند الخوارج، وخارجٌ عن الإيمان غيرُ داخلٍ في الكفر عند المعتزلة.
وقرئ {يُومنون} بغير همزة، والغيبُ إما مصدرٌ وُصف به الغائبُ مبالغةً كالشهادة في قوله تعالى: {عالم الغيب والشهادة} أو فعيل خُفّف كقَتْل في قتيل وهيْنٍ في هيّن، وميْتٍ في ميِّت، لكن لم يُستعمل فيه الأصلُ كما استعمل في نظائره. وأيًّا ما كان فهو ما غاب عن الحس والعقلِ غَيْبة كاملةً، بحيث لا يُدرَك بواحد منهما ابتداءً بطريق البَداهة، وهو قسمان: قسم لا دليل عليه، وهو الذي أريد بقوله سبحانه: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} وقسم نُصب عليه دليل كالصانع وصفاتِه، والنبواتِ وما يتعلق بها من الأحكام والشرائع، واليومِ الآخر وأحوالِه من البعث والنشورِ والحسابِ والجزاء، وهو المرادُ هاهنا، فالباءُ صلةٌ للإيمان، إما بتضمينه معنى الاعتراف، أو بجعله مجازاً من الوثوق، وهو واقعٌ موقعَ المفعول به، وإما مصدرٌ على حاله كالغَيبة، فالباءُ متعلِّقةٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من الفاعل كما في قوله تعالى: {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} وقوله تعالى: {لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} أي يؤمنون ملتبسين بالغيبة، إما عن المؤمن به، أي غائبين عن النبي صلى الله عليه وسلم غيرَ مشاهدين لما فيه من شواهد النبوة، لما رُوي أن أصحابَ ابنِ مسعود رضي الله عنه، ذكروا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمانَهم، فقال رضي الله عنه: إن أمرَ محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام كان بيِّناً لمن رآه، والذي لا إله غيرُه ما آمن مؤمنٌ أفضلَ من الإيمان بغيب، ثم تلا هذه الآية. وإما عن الناس، أي غائبين عن المؤمنين، لا كالمنافقين الذين إذا لقُوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلَوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم.
وقيل: المرادُ بالغيب القلبُ، لأنه مستور، والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فالباءُ حينئذٍ للآلة، وتركُ ذكرِ المؤمَن به على التقادير الثلاثةِ إما للقصد إلى إحداث نفسِ الفعلِ كما في قولهم فلانٌ يُعطي ويمنع، أي يفعلون الإيمان، وإما للاكتفاء بما سيجيء، فإن الكتبَ الإلهية ناطقةٌ بتفاصيل ما يجب الإيمانُ به.
{وَيُقِيمُونَ الصلاة} إقامتُها عبارةٌ عن تعديل أركانها، وحفظِها من أن يقع في شيء من فرائضها وسننها وآدابِها زيغٌ، من إقامة العُودِ إذا قوّمه وعدّله. وقيل عن المواظبة عليها، مأخوذٌ من قامت السُّوق إذا نفَقت، وأقمتُها إذا جعلتُها نافقة، فإنها إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يُرغب فيه، وقيل عن التشمُّر لأدائها عن غير فتورٍ ولا تَوانٍ، من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جدَّ فيه واجتهد، وقيل عن أدائها، عبَّر عنه بالإقامة لاشتماله على القيام، كما عبَّر عنه بالقنوت الذي هو القيامُ وبالركوع والسجود والتسبيح، والأولُ هو الأظهر، لأنه أشهرُ، وإلى الحقيقة أقربُ، والصلاةُ فَعْلةٌ، من صلَّى إذا دعا، كالزكاة من زكّى، وإنما كُتبتا بالواو مراعاةَ اللفظِ المفخّم، وإنما سُمِّيَ الفعلُ المخصوصُ بها لاشتماله على الدعاء، وقيل: أصلُ صلى حرَّك الصَّلَوَيْنِ، وهما العظمان الناتئان في أعلى الفخِذين، لأن المصليَ يفعله في ركوعه وسجوده، واشتهارُ اللفظ في المعنى الثاني دون الأول لا يقدح في نقله عنه، وإنما سُمِّيَ الداعي مصلياً تشبيهاً له في تخشّعه بالراكع والساجد.
{وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} والرزقُ في اللغة العطاءُ، ويطلق على الحظ المعطى، نحو ذِبْحٍ ورِعْيٍ للمذبوح والمَرْعيِّ. وقيل: هو بالفتح مصدر، وبالكسر اسم، وفي العُرف ما ينتفِعُ به الحيوان.
والمعتزلةُ لما أحالوا تمكينَ الله تعالى من الحرام لأنه منَعَ من الانتفاع به وأمرَ بالزجر عنه قالوا: الرزقُ لا يتناول الحرام، ألا ترى أنه تعالى أسند الرزقَ إلى ذاته إيذاناً بأنهم يُنفِقون من الحلال والصِّرْف، فإن إنفاقَ الحرام بمعزل من إيجاب المدح، وذمَّ المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً} جعلوا الإسنادَ المذكورَ للتعظيم والتحريضِ على الإنفاق، والذمَّ لتحريم ما لم يحرّم، واختصاصَ ما رزقناهم بالحلال للقرينة.
وتمسكوا لشمول الرزق لهما بما رُوي عنه عليه السلام في حديث عَمْرو بن قرَّة حين أتاه فقال: يا رَسُول الله، إنَّ الله قد كَتَبَ عَلَيَّ الشِّقْوَةَ، فلا أرى أُرْزَقُ إلاَّ مِنْ دُفِّي بِكَفِّي، فَأْذَنْ لِي فِي الغِنَاءِ، من غيرِ فَاحِشَةٍ، من أنه قال عليه السلام: «لاَ آذَنُ لَكَ وَلاَ كَرَامةَ، ولا نُعْمَةَ عَيْنٍ كَذَبْتَ أيْ عَدُوَّ الله، والله لَقَدْ رَزَقَكَ الله حَلاَلاً طَيِّباً، فَاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ الله عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ مَكَانَ مَا أَحَلَّ الله لَكَ مِنْ حَلاَلِهِ» وبأنه لو لم يكن الحرامُ رزقاً لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقاً، وقد قال الله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} والإنفاقُ والإنفادُ أخوانِ، خلا أن في الثاني معنى الإذهاب بالكلية دون الأول، والمرادُ بهذا الإنفاق الصَّرْفُ إلى سبيل الخير، فرضاً كان أو نفلاً، ومن فسَّره بالزكاة ذكر أفضلَ أنواعه الأصلَ فيه، أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقُها، والجملة معطوفة على ما قبلها من الصلة، وتقديمُ المفعول للاهتمام، والمحافظةِ على رؤوس الآي، وإدخال *من* التبعيضية عليه للكف عن التبذير.
هذا وقد جاز أن يراد به الإنفاقُ من جميع المعاون التي منحهم الله تعالى من النعم الظاهرة والباطنة، ويؤيده قوله عليه السلام: «إن علماً لا يُنال به ككنز لا يُنفق منه» وإليه ذهب من قال: ومما خَصَصْناهم من أنوار المعرفة يَفيضون.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8